[size=12]أدلة الكتاب والسنة على عذاب القبر ونعيمه
| | |
| أدلة الكتاب والسنة على عذاب القبر ونعيمه :
قال تعالى: { النار يعرضون عليها غدواً وعشيّاً ويوم تقوم
الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب }( غافر: 46 ).
والعرض على النار هنا نوع من العذاب وهو حاصل قبل يوم
القيامة بلا شك، بدليل قوله تعالى في الآية نفسها
{ ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } فدل
ذلك على ثبوت عذاب القبر، وهذا المعنى يؤيده ما رواه
البخاري و مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: ( إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده
بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة،
وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك
حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة ).
ومن الأدلة أيضا قوله تعالى: { فذرهم حتى يلاقوا يومهم
الذي فيه يصعقون يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم
ينصرون وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا
يعلمون }( الطور: 45-47) وقد روى الطبري عن ابن عباس
في قوله تعالى: { وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك }
يقول: " عذاب القبر قبل عذاب يوم القيامة ".
وقال تعالى: { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت
والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون
عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن
آياته تستكبرون }( الأنعام: 93)، فقول ملائكة العذاب:
"اليوم" يدل على الزمن الحاضر وهو بلا شك قبل يوم
القيامة. فدل ذلك على أن الكفار يعذبون قبل البعث
والحساب.
هذه بعض الآيات الدالة على عذاب القبر، وأما الأحاديث
فهي كثيرة نذكر منها ما ثبت:
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: بينما النبي صلى الله
عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن
معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو
أربعة.. فقال: ( من يعرف أصحاب هذه الأَقْبُر ؟ فقال رجل:
أنا، قال: فمتى مات هؤلاء ؟ قال: ماتوا في الإشراك. فقال:
إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت
الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه. ثم أقبل
علينا بوجهه، فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار. قالوا: نعوذ
بالله من عذاب النار. فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر .
قالوا : نعوذ بالله من عذاب القبر ) رواه مسلم .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي عجوزان
من عجز يهود المدينة، فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في
قبورهم، قالت: فكذبتهما ولم أنعم أن أصدقهما، فخرجتا
ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا
رسول الله إن عجوزين من عجز يهود المدينة دخلتا علي
فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم . فقال: صدقتا
إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم . قالت: فما رأيته بعد
في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر ) رواه مسلم .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم: ( أنه كان يتعوذ من عذاب القبر، وعذاب جهنم،
وفتنة الدجال ) رواه مسلم .
وعن ابن عباس رضي الله عنها قال: مرّ النبي صلى الله
عليه وسلم بقبرين، فقال: ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في
كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان
يمشي بالنميمة ) متفق عليه.
وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الطويل، جاء فيه
عن العبد المؤمن: ( قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه
ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك ؟ فيقول: ربي الله،
فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: ديني الإسلام . فيقولان له:
ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: هو رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فيقولان له: وما علمك ؟ فيقول
قرأت كتاب الله فآمنت به، وصدقت، فينادى مناد في
السماء: أن صدق عبدي، فافرشوه من الجنة، وألبسوه من
الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة. قال: فيأتيه من روحها
وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره .. ) رواه أحمد .
قال العلامة ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: "
وقد تواترت الأخبار عن رسول الله في ثبوت عذاب القبر
ونعيمه - لمن كان لذلك أهلا - وسؤال الملكين . فيجب
اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، إذ
ليس للعقل وقوف على كيفيته لكونه لا عهد له به في
هذا الدار " .
وقال أبو الحسن الأشعري في الإبانة :" وقد أجمع على
ذلك – أي عذاب القبر ونعيمه - الصحابة والتابعون رضي الله
عنهم أجمعين " ، وممن نقل الإجماع أيضا شيخ الإسلام
ابن تيمية وغيره .
شبهات من أنكر عذاب القبر والرد عليها
مما استدل به المنكرون لعذاب القبر ونعيمه قول الله عز
وجل: { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى }( الدخان:
56) قالوا: لو صاروا أحياء في القبور لذاقوا الموت مرتين
مرة في حياتهم الدنيا، ومرة في حياتهم البرزخية.
واستشهدوا على إنكارهم أيضا بقوله تعالى: { وما أنت
بمسمع من في القبور }(فاطر: 22) قالوا: إن الغرض من
سياق الآية تشبيه الكفرة بأهل القبور في عدم السماع،
ولو كان الميت حيا في قبره أو حاسا لم يستقم التشبيه.
هذا من جهة النقل، أما من جهة العقل فقالوا: إنا نرى
الشخص يصلب ويبقى مصلوبا إلى أن تذهب أجزاؤه، ولا
نشاهد فيه أيّاً من علامات الحياة فلا نراه يعذب ولانراه
ينعم.
ونرى الرجل يحرق بالنار، وتأكله السباع، ولا نرى أثرا لما
تقولونه من عذاب القبر ونعيمه.
وللإجابة على ذلك نقول أما قوله تعالى:{ لا يذوقون فيها
الموت إلا الموتة الأولى }( الدخان: 56) وقولهم: لو صاروا
أحياء في القبور لذاقوا الموت مرتين مرة في حياتهم الدنيا،
ومرة في حياتهم البرزخية.
فالجواب على ذلك أن الإيمان بحياة الأموات في قبورهم لا
يقتضي مساواة حياتهم في البرزح بحياتهم في الدنيا، بل
هي حياة خاصة قدرها الله سبحانه لهم، وعليه فلا يلزم ما
قاله المنكرون لعذاب القبر ونعيمه من أنه لو كان الأموات
منعمين أو معذبين للحقهم الموت مرة ثانية إذ ذلك لا يلزم
إلا في حال تساوي الحياتين.
ومنشأ هذا الخلط عند منكري عذاب القبر هو ظنهم أن
الموت هو عدم محض لا يشعر معه صاحبه بشيء وهذا ما
ترده النصوص الشرعية من الكتاب والسنة .
ثم إن الآية جاءت في سياق الامتنان على أهل الجنة
بأنهم خالدون فيها لا يذوقون الموت سوى ما ذاقوه أول
مرة في حياتهم الأولى، فليس في الآية حديث عن عذاب
القبر ولا نعيمه ولا تعلق للآية به، فالاستدلال بها إقحام
لها في غير سياقها ومساقها .
أما استشهادهم بقوله تعالى:{ وما أنت بمسمع من في
القبور }( فاطر: 22) فالجواب عنه بأن الآية وردت في
سياق تشبيه حال الكفار من حيث عدم انتفاعهم بسماع
المواعظ والآيات بحال أهل القبور الذين لا ينتفعون بشيء
مما يلقى عليهم، فالآية تنفي سماع الانتفاع لا مطلق
السماع بدليل أن الكفار وهم المرادون في الآية بالأموات
يسمعون الآيات بلا شك ولكنهم لا ينتفعون بها .
هذا ما يتعلق برد استدلالهم بالمنقول على إنكار عذاب
القبر ونعيمه، أما استدلالهم بالمعقول وبالحس فالرد عليه
من وجوه:
الوجه الأول: أن الله قد حجب عنا معرفة ما يحصل للميت
شفقة بنا لئلا نترك دفن موتانا، قال صلى الله عليه وسلم:
( إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت
الله أن يسمعكم من عذاب القبر ) رواه مسلم
الوجه الثاني: أن عدم رؤيتنا لما يحصل للميت من عذاب أو
نعيم لا يعني عدم وجوده فقدرة الله ليس لها حدود، فهو
قادر سبحانه على أن يعذب أو ينعم من مات محروقا، أو
مات مأكولا، فالله لا يعجزه شيء وهو على كل شيء
قدير.
الوجه الثالث: أننا نرى اليوم من طرق التعذيب أنواعا
مختلفة لا تترك آثارا في الجسد كالتعذيب الكهربائي مثلا
أو التعذيب النفسي، وهي أنواع من التعذيب ربما تكون
أقسى من تلك التي تترك ندوبا في الجسد وآثارا.
الوجه الرابع: أن من أصول الإيمان عندنا الإيمان بالغيب،
وعذاب القبر منه، وإنكار عذاب القبر ونعيمه بدعوى عدم
مشاهدته أو الإحساس به، هو فتح لباب جحود الغيب
على مصراعيه، فالملائكة تطوف حولنا وتكتب حسناتنا
وسيئاتنا ولا نراها ومع ذلك نؤمن بها، وكذلك الجن، فهل
يعد عدم رؤيتنا لذلك مبررا لإنكار تلك الغيبيات .
وبهذا يظهر أن من أنكر عذاب القبر ونعيمه ليس معه من
العلم سوى الأوهام، وأن دلائل الكتاب والسنة قائمة على
إثباته وتحقيقه، والله أعلم .
منقوول |
الكاتب: الإمام ابن القيم رحمه الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على من أكمل الله به الدين وأتم به النعمة، نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين.
أسباب عذاب القبر
أورد ابن القيم رحمه الله سؤالاً حول عذاب القبر وأجاب عليه، في كتابه "الروح".
قال – رحمه الله تعالى- يقول السائل: ما الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور؟ وجواب ذلك من وجهين: مجمل ومفصل.
أما المجمل: فإنهم يعذبون على جهلهم بالله، وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم لمعاصيه، فلا يعذب الله روحاً عرفته وأحبته وامتثلت أمره واجتنبت نهيه، ولا بدناً كانت فيه أبداً، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده، فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك، كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذب.
وأما الجواب المفصل: فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما، يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخر الاستبراء من البول،فهذا ترك الطهارة الواجبة، وذلك ارتكب السبب الموقع للعداوة بين الناس بلسانه وإن كان صادقاً، وفي هذا تنبيه على أن الموقع بينهم العداوة بالكذب والزور والبهتان أعظم عذاباً، كما أن في ترك الصلاة التي الاستبراء من البول بعض واجباتها وشروطها فهو أشد عذاباً.
وأخبر عليه الصلاة والسلام- كما في رواية- أن احد هاذين اللذين يعذبان كان يأكل لحوم الناس، فهو مغتاب، وذلك نمام.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أن رجلاً ضرب في قبره سوطاً فامتلأ القبر عليه نار، لكونه صلى صلاة واحدة بغير طهور، ومر على مظلوم فلم ينصره. [الحديث رواه الطحاوي في بسند حسن].
وأخبر صلى الله عليه وسلم كما في حديث سمرة بن جندب الذي رواه البخاري عن تعذيب من يكذب الكذبة تبلغ الآفاق، وعن تعذيب من يقرأ القرآن ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به في النهار، وعن تعذيب الزناة والزواني، وعن تعذيب آكل الربا، أخبر عنهم كما شاهدهم في البرزخ.
وفي حديث آخر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رضخ رؤوس أقوام بالصخر لتثاقل رؤوسهم عن الصلاة، وعن الذين يسرحون بين الضريع والزقوم لتركهم زكاة أموالهم، وعن الذين يأكلون اللحم المنتن الخبيث لزناهم، والذين تقرض شفاهم بمقارض من حديد لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب.
وجاء في حديث رواه أبو سعيد عنه صلى الله عليه وسلم ذكر أرباب بعض الجرائم وعقوباتهم:
فمنهم من بطونهم أمثال البيوت وهم على سابلة آل فرعون، وهم أكلة الربا، ومنهم من تفتح أفواههم فيلقمون الجمر حتى يخرج من أسالفهم، وهم أكلة أموال اليتامى، ومنهم من تقطع جنوبهم ويطعمون لحومهم، وهم المغتابون، ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم، وهم الذين يمزقون أعراض الناس.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحب الشملة التي غلها من المغنم، أنها تشتعل عليه ناراً في قبره، هذا وله فيها حق، فكيف بمن ظلم غيره ما لا حق فيه؟!
فعذاب القبر من معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله: فالنمام، والكذاب، والمغتاب، وشاهد الزور، وقاذف المحصن، والموضع في الفتنة، والداعي إلى البدعة، والقائل على الله ورسوله ما لا علم له به، والمجازف في كلامه، وآكل الربا، وآكل أموال اليتامى، وآكل السحت من الرشوة وغيرها، وأكل مال أخيه المسلم بغير حق، أو مال المعاهد، وشارب المسكر، والزاني، واللوطي، والسارق، والخائن، والغادر، والمخادع، والماكر، وآخذ الربا ومعطيه وكاتبه وشاهداه، والمحلل والمحلل له، والمحتال على إسقاط فرائض الله وارتكاب محارمه، ومؤذي المسلمين ومتتبع عوراتهم، والحاكم بغير ما أنزل الله، والمفتي بغير ما شرع الله، والمعين على الإثم والعدوان، وقاتل النفس التي حرّم الله، والملحد في حرم الله، والمعطل لحقائق أسماء الله وصفاته الملحد فيها، والمقدم رأيه وذوقه سياسته على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، النائحة والمستمع إليها، ونواحوا جهنم، وهم المغنون الغناء الذي حرمه الله ورسوله، والمستمع إليهم والذين يبنون المساجد على القبور، ويوقدون عليها القناديل والسُرج، والمطففون في استيفاء مالهم إذا أخذوه، وهضم ما عليهم إذا بذلوه، والجبارون، والمتكبرون، والمراءون، والهمازون واللمازون، والطاعنون على السلف، والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرافين فيسألونهم ويصدقونهم، وأعوان الظلمة الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، والذي خوفته بالله وذكرته به فلم يرعوِ ولم ينزجر، فإذا خوفته بمخلوق مثله خاف وارعوى وكفّ عمّا هو فيه، والذي يهدى بكلام الله ورسوله فلا يهتدي، ولا يرفع به رأساً، فإذا بلغه عما يحسن به الظن ممن يصيب ويخطىء عضّ عليه بالنواجذ ولم يخالفه، والذي يقرأ القرآن فلا يؤثر فيه، وربما اشتغل به، فإذا استمع قرآن الشيطان ورقية الزنا ومادة النفاق طاب سره وتواجد وهاج من قلبه دواعي الطرب، وودّ أن المغني لا يسكت، والذي يحلف بالله ويكذب، فإذا حلف بالولي أو برأس شيخه أو أبيه أو حياة من يحبه ويعظمه من المخلوقين لم يكذب ولو هُدّد وعوقب، والذي يفتخر بالمعصية ويتكثر بها بين أقرانه، وهو المجاهر، والذي لا تأمنه على مالك وحرمتك، والفاحش اللسان الذي تركه الخلق إتّقاء شره وفحشه، والذي يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وينقرها ولا يذكر الله فيها إلا قليلاً، ولا يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولا يحج مع قدرته على الحج، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق مع قدرته عليها، ولا يتورع من لحظة ونظره ولا من لفظه ولا أكله ولا خطوه، ولا يبالي بما حصّل من المال من حلال أو حرام، ولا يصل رحمه، ولا يرحم المسكين ولا الأرملة ولا اليتيم، ولا يرحم الحيوان البهيم، بل يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، ويرائي للعالمين، ويمنع الماعون، ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه، وبذنوبهم عن ذنبه.
فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم، بحسب كثرتها وقلتها، وصغرها وكبرها. ما لم يغفر الله لهم ويتجاوز عنهم بتوبة أو رحمة منه تعالى.
ولما كان أكثر الناس كذلك، كان أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات وعذاب، ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينا وبين شهواتها وأمانيها.
تالله لقد وعظت فما تركت لواعظ مقالاًن ونادت: يا عُمار الدنيا، لقد عمرتم داراً موشكة بكم زوالاً، وخربتم داراً أنتم مسرعون إليها انتقالاً، عمرتم بيوتاً لغيركم منافعها وسكانها، وخربتم بيوتاً ليس لكم مساكن سواها، هذه دار الاستباق، ومستودع الأعمال وبذر الزرع، وهذه محل للعبر، رياض من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
الأسباب المنجية من عذاب القبر
إن الأسباب المنجية من عذاب القبر من وجهين: مجمل، ومفصل.
أما المجمل فهو: فجنب الأسباب التي تقتضي عذاب القبر، ومن أنفع أسباب تجنب عذاب القبر: أن يجلس الإنسان عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحاً بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلاً للعمل مسروراً بتأخير أجله، حتى يستقبل ربه، ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه النومة، ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله تعالى واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النوم، حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيراً وفقه لذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما الجواب المفصل: فنذكر أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ينجي من عذاب القبر:
فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان »
ومعنى الرباط: الإقامة بالثغر مقوياً للمسلمين على الكفار ، والثغر: كل مكان يخيف أهله العدو ويخيفهم. والرباط فضله عظيم وأجره كبير، وأفضله ما كان في أشد الثغور خوفاً.
ومما يُنجي من عذاب القبر ما دل عليه ما رواه النسائي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال: ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: « كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة »
وروى الترمذي وابن ماجه وغيرهما بسند صحيح عن المقدام بن معد يكرب- رضي الله عنه-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « للشهيد عند الله ست خصال: يُغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه » ، وهذا لفظ ابن ماجه وعند الترمذي: « ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويُزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه » . وهذا بعض فضل الجهاد في سبيل الله والاستشهاد فيه.
ومما جاء فيما ينجي من عذاب القبر: ما ثبت عند أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي، عن أبي هريرة- رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « سورة من القرآن ثلاثون آية تشفع لصاحبها حتى غفر له » . فدلّ هذا الحديث وما جاء في معناه من الآثار على أن من حافظ على قراءة سورة الملك وداوم على ذلك وعمل بما دلّت عليه، فإنها تنجيه من عذاب القرب.
ومما جاء فيما ينجي من عذاب القبر: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من يقتله بطنه فلن يُعذّب في قبره » [رواه الترمذي]
وهذا يحمل من أصيب بداء البطن أن يصبر ولا يجزع، ويحتسب الأجر عند الله، وأن يحتسبه أهله كذلك.
ومما جاء فيما ينجي من عذاب القبر: ما رواه الإمام أحمد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، إلا وقاه الله تعالى فتنة القبر » . وهذا محض فضل الله وتوفيقه لحسن الخاتمة.
ومما يستأنس به في هذا الباب: ما رواه ابن حبان في صحيحه وغيره عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الميت إذا وضع في قبره، إنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتي من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه، فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه، فتقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قبلي مدخل.
فيقال له: اجلس، فجلس، وقد مثلت له الشمس وقد أدنيت للغروب، فيقال له: أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي، فيقولون: إنك ستفعل، أخبرنا عما نسألك عنه، أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم، ما تقول فيه؟ وماذا تشهد عليه؟ قال: فيقول: محمّد، أشهد أنه رسول الله، وأنه جاء بالحق من عند الله، فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تُبعث إن شاء الله، ثم يُفتح له باب من أبواب الجنة، فيقال له: هذا مقعدك منها، وما أعد الله لك فيها، فيزداد غبطة وسروراً، ثم يُفتح له باب من أبواب النار، فيقال له: هذا مقعدك منها، وما أعد الله لك فيها لو عصيته، فيزداد غبطة وسروراً، ثم يُفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له فيه، ويعاد الجسد لما بدأ منه، فتجعل نسمته في النسيم الطيب، وهي طير يعلق في شجرة الجنة، قال: فذلك قوله تعالى: { يُثبّتُ اللهُ الذينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } إلى آخر الآية [إبراهيم: 27]، ثم ذكر تمام الحديث. »
وقد دل على ذلك أن تلك الأعمال من الصلاة والزكاة والصيام وفعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس من أسباب النجاة من عذاب القبر وكربه وفتنه.
والجامع في ذلك تحقيق التقوى لله تعالى، كما قال سبحانه: { إِنَّ الذينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [الأحقاف: 13].
اللهُمّ اجعل قبورنا وإخواننا المسلمين رياضاً من رياض الجنة، وقنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، يا كريم، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[للاستزادة انظر كتاب الروح للإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله].
__________________
[/size]