محمد
(( المدير العام ))
دعاء الدولة : عدد المساهمات : 3173 33161 تاريخ الميلاد : 25/07/1977 تاريخ التسجيل : 28/02/2010 العمر : 46 مدرس - مدير الموقع عزيمة وإرادة
بطاقة الشخصية المدير العام: 10
| موضوع: فتوح الغيب للقطب الرباني سيدي عبدالقادر الجيلاني السبت أبريل 27, 2013 11:30 pm | |
| بـسـم الله الـرحـمـن الـرحـيـم الـحـمـد لله رب الـعـالـمـيـن و الـصـلاة و الـسـلام عـلـى أشـرف الأنـبـيـاء و الـمـرسـلـيـن ســيـدنـا و مـولانـا حـبـيـبـنـا و قـرة أعـيـنـنـا مـحـمـد و عـلـى آلـه و صـحـبـه أجـمـعـيـن و مـن تـبـعـهـم بـإحـســان إلـى يــوم الـديـن فتوح الغيب للقطب الرباني الشيخ محي الدين عبدالقادر الجيلاني رضي الله عنه وأرضاه مـقـدمـة الـمـؤلـف
قال الشيخ عبد الرزاق ولد المؤلف : قال والدي رضي الله تعالى عنه مؤيد الأئمة سيد الطوائف أبو محمد محي الدين عبد القادر الجيلاني الحسني الحسيني الصديقي، ابن أبي صالح موسى جنكى دوست ابن الإمام عبد الله ابن الإمام يحيى الزاهد ابن الإمام محمد ابن الإمام داود ابن الإمام موسى ابن الإمام عبد الله ابن الإمام موسى الجون ابن الإمام عبد الله المحض ابن الإمام الحسن المثنى ابن الإمام أمير المؤمنين سيدنا الحسن السبط ابن الإمام الهمام أسد الله الغالب، فخر بني غالب، أمير المؤمنين سيدنا علي ابن أبي طالب، كرم الله وجهه، ورضي عنه وعنهم أجمعين آمين :
الحمد لله ربِّ العالمين أولاً وأخرا وظاهراً وباطناً، عدد خلقه ومداد كلماته، وزنة عرشه، ورضاء نفسه، وعدد كل شفع ووتر، ورطب ويابس في كتاب مبين، وجميع ما خلق ربنا وذرأ وبرأ، خالق بلا مثال أبداً سرمداً طيباً مباركاً، الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأمات وأحيى، وأضحك وأبكى، وقرب وأدنى، وأرحم وأخزى، وأطعم وأسقى، وأسعد وأشقى، ومنع وأعطى، الذي بكلمته قامت السبع الشداد، وبها رست الرواسي والأوتاد واستقرت الأرض المهاد، فلا مقنوطاً من رحمته، ولا مأموناً من مكره وغيرته وإنفاذ أقضيته وفعله وأمره، ولا مستنكفاً عن عبادته، ولا مخلواً من نعمته، فهو المحمود بما أعطى، والمشكور بما زوى، ثم الصلاة على نبيه المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، الذي من اتبع ما جاء به اهتدى ومن صدف عنه ضل وارتدى، النبي الصادق المصدوق، الزاهد في الدنيا، الطالب الراغب في الرفيق الأعلى، المجتبى من خلقه، المنتخب من بريته، الذي جاء بالحق بمحبته، زهق الباطل بظهوره، وأشرقت الأرض بنوره.
ثم الصلوات الوافيات، والبركات الطيبات، الزاكيات المباركات عليه ثانياً وعلى آله الطيبين، وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، الأحسنين لربهم فعلا، الأقومين له قيلا، والأصوبين إليه طريقاً وسبيلاً، ثم تضرعنا ودعاؤنا ورجوعنا إلى ربنا، ومنشئنا وخالقنا ورازقنا، ومطعمنا ومسقينا، ونافعنا وحافظنا، وكالئنا ومحيينا، والذابّ والدافع عنا جميع ما يؤذينا ويسوءنا، كل ذلك برحمته وتحننه وفضله ومتنه بالحفظ الدائم في الأقوال والأفعال في السر والإعلان، والإظهار والكتمان والشدة والرخاء والنعمة والبأساء والضراء، إنه فعال لما يريد، والحاكم بما يشاء، العالم بما يخفى، المطلع على الشؤون والأحوال، من الزلات والطاعات والقربات، السامع للأصوات، المجيب للدعوات، لمن يشاء من غير تنازع وتردد.
أما بعد : فإن نعم الله علي كثيرة متواترة، في آناء الليل وأطراف النهار والساعات واللحظات والخطرات وجميع الحالات، كما قال عزَّ وجلَّ : }وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا{. إبراهيم34. وقوله تعالى : }وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ{.النحل53. فلا يدان لي ولا جنان ولا لسان في إحصائها وأعدادها، فلا يدركها التعداد ولا تضبطها العقول والأذهان، ولا يحصيها الجنان ولا يعبرها اللسان. فمن جملة ما مكن عن تعبيرها اللسان، وأظهرها الكلام وكتبها البنان، وفسرها البيان، كلمات برزت وظهرت لي من فتوح الغيب فحلت في الجنان، فأشغلت المكان فأنتجها وأبرزها صدق الحال، فتولى إبرازها لطف المنان، ورحمة ربّ الأنام في قالب صواب المقال، لمريدي الحق والطلاب.
المقالة الأولى فـيمـا لا بـدّ لـكـل مـؤمـن
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : لا بد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلاثة أشياء : أمر يمتثله، ونهي يجتنبه، وقدر يرضى به، فأقل حالة المؤمن لا يخلو فيها من أحد هذه الأشياء الثلاثة، فينبغي له أن يلزم همها قلبه، وليحدث بها نفسه، ويؤاخذ الجوارح بها في سائر أحواله.
المقالة الثانية فـي الـتـواصـي بـالـخـيـر
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : اتبعوا ولا تبتدعوا, وأطيعوا ولا تمرقوا، ووحدوا ولا تشركوا, ونزهوا الحق ولا تتهموا، وصدقوا ولا تشكوا، واصبروا ولا تجزعوا، واثبتوا ولا تنفروا, واسألوا ولا تسأموا, وانتظروا وترقبوا ولا تيأسوا, وتواخوا ولا تعادوا، واجتمعوا على الطاعة ولا تتفرقوا، وتحابوا ولا تباغضوا, وتطهروا عن الذنوب وبها لا تدنسوا ولا تتلطخوا, وبطاعة ربكم فتزينوا, وعن باب مولاكم فلا تبرحوا، وعن الإقبال عليه فلا تتولوا، وبالتوبة فلا تسوفوا، وعن الاعتذار إلى خالقكم في آناء الليل وأطراف النهار فلا تملوا، فلعلكم ترحمون وتسعدون، وعن النار تبعدون، وفي الجنة تحبرون، وإلى الله توصلون، وبالنعيم وافتضاض الأبكار في دار السلام تشتغلون، وعلى ذلك تخلدون، وعلى النجائب تركبون, وبحور العين وأنواع الطيب وصوت القيان مع ذلك النعيم تحبرون، ومع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ترفعون.
المقالة الثالثة فـي الابـتـلاء
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : إذا ابتلي العبد ببلية تحرك أولاً في نفسه بنفسه, فإن لم يتخلص منها استعان بالخلق كالسلاطين وأرباب المناصب وأرباب الدنيا وأصحاب الأحوال وأهل الطب في الأمراض والأوجاع، فإن لم يجد في ذلك خلاصاً رجع إلى ربّه بالدعاء والتضرع والثناء. ما دام يجد بنفسه نصرة لم يرجع إلى الخلق، وما دام يجد به نصرة عند الخلق لم يرجع إلى الخالق, ثم إذا لم يجد عند الخلق نصرة استطرح بين يديه مديماًً للسؤال والدعاء والتضرع والثناء والافتقار مع الخوف والرجاء, ثم يعجزه الخالق عزَّ وجلَّ عن الدعاء, ولم يجبه حتى ينقطع عن جميع الأسباب، فحينئذ ينفذ فيه القدر ويفعل فيه الفعل، فيفنى العبد عن جميع الأسباب والحركات، فيبقى روحاً فقط, فلا يرى إلا فعل الحق فيصير موقناً موحداً ضرورة يقطع أن لا فاعل في الحقيقة إلا الله لا محرك ولا مسكن إلا الله ولا خير ولا ضر ولا نفع ولا عطاء ولا منع, ولا فتح ولا غلق، ولا موت ولا حياة، ولا عزّ ولا ذل إلا بيد الله فيصير في القدر كالطفل الرضيع في يد الظئر والميت الغسيل في يد الغاسل والكرة في صولجان الفارس، يقلب ويغير ويبدل, ويكون ولا حراك به في نفسه ولا في غيره فهو غائب عن نفسه في فعل مولاه , فلا يرى غير مولاه وفعله, ولا يسمع ولا يعقل من غيره إن بصر وإن سمع وعلم, فلكلامه سمع، ولعلمه علم، وبنعمته تنعم، وبقربه تسعد، وبتقريبه تزين وتشرف, وبوعده طاب وسكن, به اطمأن, وبحديثه أنس, وعن غيره استوحش ونفر, وإلى ذكره التجأ وركن, وبه عزَّ وجلَّ وثق وعليه توكل، وبنور معرفته اهتدى وتقمص وتسربل, وعلى غرائب علومه اطلع، وعلى أسرار قدرته أشرف، ومنه سمع ووعي, ثم على ذلك حمد وأثنى وشكر ودعا.
المقالة الرابعة فـي الـمـوت الـمـعـنـوي
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : إذا مت عن الخلق قيل لك رحمك الله وأماتك عن الهوى، وإذا مت عن هواك قيل رحمك الله وأماتك عن إرادتك ومناك، وإذا مت عن الإرادة قيل رحمك الله وأحياك حياة لا موت بعدها، وتغنى غنى لا فقر بعده، وتعطى عطاء لا منع بعده, وتراح براحة لا شقاء بعدها، وتنعم بنعمة لا بؤس بعدها، وتعلم علماً لا جهل بعده، وتؤمن أمناً لا خوف بعده، وتسعد فلا تشقى, وتعز فلا تذل, وتقرب فلا تبعد, وترفع فلا توضع, وتعظم فلا تحقر, وتطهر فلا تدنس, لتحقق فيك الأماني, وتصدق فيك الأقاويل, فتكون كبريتاً أحمر فلا تكاد ترى, وعزيزاً فلا تماثل, وفريداً فلا تشارك, ووحيداً فلا تجانس, فرداً بفرد ووتراً بوتر, وغيب الغيب, وسر السر, فحينئذ تكون وارث كل نبي وصديق ورسول. بك تختم الولاية وإليك تصير الأبدال وبك تنكشف الكروب, وبك تسقى الغيوث, وبك تنبت الزروع, وبك يدفع البلاء والمحن عن الخاص والعام وأهل الثغور والراعي والرعايا, والأئمة والأمة وسائر البرايا, فتكون شحنة البلاد والعباد, فتنطلق إليك الرجل بالسعي, والرجال والأيدي بالبذل والعطاء والخدمة بإذن خالق الأشياء في سائر الأحوال, والألسن بالذكر الطيب والحمد والثناء وجمع المجال, ولا يختلف فيك اثنان من أهل الإيمان, يا خير من سكن البراري وجال بها }ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ{. الحديد21.
المقالة الخامسة فـي بـيـان الـدنـيـا و الـحـث عـلـى عـدم الالـتـفـات إلـيـهـا
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : إذا رأيت الدنيا في يدي أربابها بزينتها وأباطيلها وخداعها ومصائدها وسمومها القتالة, مع لين مس ظاهرها, وضراوة باطنها وسرعة إهلاكها, وقتلها لمن مسها واغتر بها وغفل عن وليها وعيرها بأهلها ونقض عهدها، فكن كمن رأى انساناً على الغائط بالبراز بادية سوأته وفائحة رائحته, فإنك تغض بصرك عن سوأته، وتسد أنفك من رائحته ونتنه, فهكذا كن في الدنيا, إذا رأيتها غض بصرك عن زينتها، وسد أنفك عما يفوح من روائح شهواتها ولذاتها, فتنجو منها ومن آفاتها, ويصل إليك قسمك منها وأنت مهنأ, قال الله تعالى لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم : }وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى{. طـه131.
المقالة السادسة فـي الـفـنـاء عـن الـخـلـق
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : افن عن الخلق بإذن الله تعالى, عن هواك بأمر الله تعالى }وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{. المائدة23. وعن إرادتك بفعل الله تعالى. وحينئذ تصلح أن تكون وعاء لعلم الله تعالى, فعلامة فنائك عن خلق الله تعالى انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم واليأس مما في أيديهم، وعلامة فنائك عن هواك ترك التكسب والتعلق بالسبب في جلب النفع والضرر, فلا تحرك ولا تعتمد عليك ولا لك ولا تذب عنك ولا تنتصر لنفسك، تكل ذلك كله إلى الله تعالى لأنه تولاه اولاً فيتولاه آخراً, كما كان موكولاً إليه في حال كونك مغيباً في الرحم، وكونك رضيعاً طفلاً في مهدك, وعلامة فنائك عن إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مراداً قط , ولا يكون لك غرض, ولا يبقى لك حاجة ولا مرام, فإنك لا تريد مع إرادة الله سواها, بل يجري فعل الله فيك, فتكون أنت عند إرادة الله وفعله ساكن الجوارح مطمئن الجنان منشرح الصدر منور الوجه عامر البطن غنياً عن الأشياء بخالقها, تقلبك يد القدرة, ويدعوك لسان الأزل, ويعلمك ربُّ الْمِلَلْ, ويكسوك أنواراً منه والحلل, وينزلك من أولي العلم الأول, فتكون منكسراً أبداً, فلا يثبت فيك شهوة وإرادة كالإناء المنثلم الذي لا يثبت فيه مائع وكدر, فتنقى عن أخلاق البشرية, فلن يقبل باطنك شيئاً غير إرادة الله عزَّ وجلَّ, فحينئذ يضاف إليك التكوين وخرق العادات, فيرى ذلك منك في ظاهر الفعل والحكم, وهو فعل الله وإرادته حقاً في العالم, فتدخل حينئذ في زمرة المنكسرة قلوبهم الذين كسرت إرادتهم البشرية وأزيلت شهواتهم الطبيعية فاستؤنفت لهم إرادة ربانية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (حبب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء , وجعلت قرة عيني في الصلاة) فأضيف ذلك بعد أن خرج منه وزال عنه تحقيقاً بما أشرنا, وتقدم. قال الله تعالى في حديثه القدسي : "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" فإن الله تعالى لا يكون عندك حتى تنكسر جملة هواك وإرادتك, فإذا انكسرت ولم يثبت فيك شيء ولم يصلح فيك شيء, أنشأك الله فجعل فيك إرادة, فتريد بتلك الإرادة, فإذا صرت في الإرادة المنشأة فيك، كسرها الربّ تعالى بوجودك فيها, فتكون منكسر القلب أبداً, فهو لا يزال يجدد فيك إرادة ثم يزيلها عند وجودك فيها هكذا إلى أن يبلغ الكتاب أجله, فيحصل اللقاء, فهذا هو معنى "عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" ومعنى قولنا عند وجودك فيها هو ركونك وطمأنينتك إليها. قال الله تعالى في حديثه القدسي , الذي يرويه صلى الله عليه وسلم : (لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه , فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها) وفي لفظ آخر "فبي يسمع ، وبي يبطش وبي يعقل". وهذا إنما يكون في حالة الفناء لا غير, فإذا فنيت عنك وعن الخلق, والخلق إنما هو خير وشر, فلم ترج خيرهم ولا تخاف شرهم بقي الله وحده كما كان, ففي قدر الله خير وشر, فيؤمنك من شر القدر ويغرقك في بحار خيره, فتكون وعاء كل خير, ومنبعاً لكل نعمة وسرور وحبور وضياء أمن وسكون، فالفناء والمنى والمبتغى والمنتهى حد ومرد ينتهي إليه مسير الأولياء, وهو الاستقامة التي طلبها من تقدم من الأولياء والأبدال أن يفنوا عن إرادتهم وتبدل بإرادة الحق عزَّ وجلَّ, فيريدون بإرادة الحق أبداً إلى الوفاة، فلهذا سموا أبدالاً رضي الله عنهم, فذنوب هؤلاء السادة أن يشركوا إرادة الحق بإرادتهم على وجه السهو والنسيان وغلبة الحال والدهشة, فيدركهم الله تعالى برحمته بالتذكرة واليقظة, فيرجعوا عن ذلك ويستغفروا ربهم, إذ لا معصوم عن الإرادة إلا الملائكة, عصموا عن الإرادة، والأنبياء عصموا عن الهوى, وبقية الخلق من الإنس والجن المكلفين لم يعصموا منها غير أن الأولياء بعضهم يحفظون عن الهوى, والأبدال عن الإرادة, ولا يعصمون منهما على معنى يجوز في حقهم الميل إليهما في الأحيان, ثم يتداركهم الله عزَّ وجلَّ باليقظة برحمته.
المقالة السابعة فـي إذهـاب غـمـم الـقـلـب
قـال رضـي الله تـعـالى عـنـه و أرضـاه : أخرج من نفسك وتنح عنها, وانعزل عن ملكك وسلم الكل إلى الله, فكن بوابه على باب قلبك، وامتثل أمره في إدخال من يأمرك بإدخاله، وانته بنهيه في صد من يأمرك بصده، فلا تدخل الهوى قلبك بعد أن خرج منه، فإخراج الهوى من القلب بمخالفته، وترك متابعته في الأحوال كلها، وإدخاله في القلب بمتابعته وموافقته، فلا ترد إرادة غير إرادته, وغير ذلك منك تمن وهو وادي الحمقى, وفيه حتفك وهلاكك وسقوطك من عينه وحجابه عنك, أحفظ أبداً أمره, وانته أبداً بنهيه، وسلم لمقدوره, ولا تشركه بشيء من خلقه, فإرادتك وهواك وشهواتك كلها خلقه, فلا ترد ولا تهوى ولا تشته كيلا تكون مشركاً. قال الله تعالى : }فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً{. الكهف110.
ليس الشرك عبادة الأصنام فحسب, بل هو متابعتك هواك، وأن تختار مع ربك شيئاً سواه من الدنيا وما فيها والآخرة وما فيها, فما سواه عزَّ وجلَّ غيره، فإذا ركنت إلى غيره فقد أشركت به عزَّ وجلَّ غيره, فاحذر ولا تركن, وخف ولا تأمن, وفتش فلا تغفل فتطمئن, ولا تضف إلى نفسك حالاً ومقاماً, ولا تدع شيئاً من ذلك, فإن أعطيت حالاً أو أقمت في مقام فلا تختر شيئاً واحداً من ذلك, فإن الله }كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ{.الرحمن29. في تغيير وتبديل, وإنه يحول بين المرء وقلبه, فيزيلك عما أخبرت به, ويغيرك عما تخيلت ثباته وبقاءه, فتخجل عند من أخبرته بذلك، بل أحفظ ذلك فيك ولا تعده إلى غيرك فإنه كلي الثبات والبقاء, فتعلم أنه موهبة وتسأل التوفيق للشكر واستر رؤيته وإن كان غير ذلك كان فيه زيادة علم ومعرفة ونور وتيقظ وتأديب. قال الله عزَّ وجلَّ : }مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{.البقرة106. فلا تعجز الله في قدرته، ولا تتهمه في تقديره ولا تدبيره، ولا تشك في وعده, فليكن لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة, نسخت الآيات والسور النازلة عليه المعمولة بها المقروءة في المحاريب المكتوبة في المصاحف, ورفعت وبدلت وأثبت غيرها مكانها, ونقل صلى الله عليه وسلم إلى غيرها, هذا في ظاهر الشرع، وأما في الباطن والعلم والحال فيما بينه وبين الله عزَّ وجلَّ فكان يقول : (إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في كل يوم سبعين مرة) ويروى (مائة مرة) وكان صلى الله عليه وسلم ينقل من حالة إلى أخرى ويسير به في منازل القرب وميادين الغيب، ويغير عليه خلع الأنوار، فتبين الحالة الأولى عند ثانيها ظلمة ونقصاناً وتقصيراً في حفظ الحدود، فيلقن الاستغفار لأنه أحسن حال العبد، والتوبة في سائر الأحوال لأن فيها اعترافه بذنبه وقصوره، وهما صفتا العبد في سائر الأحوال، فهما وراثة من أبي البشر آدم عليه السلام إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم حين اعترت صفاء حاله ظلمة النسيان للعهد والميثاق، وإرادة الخلود في دار السلام, ومجاورة الحبيب الرحمن المنان، ودخول الملائكة الكرام عليه بالتحية والسلام, فوجد هناك مشاركة إرادته لإرادة الحق, فانكسرت لذلك تلك الإرادة, وزالت تلك الحالة, وانعزلت تلك الولاية, فانهبطت تلك المنزلة وأظلمت تلك الأنوار وتكدر ذلك الصفاء, ثم تنبه وذكر صفي الرحمن، فعرف الاعتراف بالذنب والنسيان, ولقن الإقرار فقال : }رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ{.الأعراف23. فجاءت أنوار الهداية وعلوم التوبة ومعارفها، والمصالح المدفونة فيها ما كان غائباً من قبل, فلم تظهر إلا بها، فبدلت تلك الإرادة بغيرها والحالة الأولى بأخرى, وجاءته الولاية الكبرى والسكون في الدنيا ثم في العقبى, فصارت الدنيا له ولذريته منزلاً, والعقبى لهم موئلاً ومرجعاً وخلداً, فلك برسول الله وحبيبه المصطفى وأبيه آدم صفي الله عليهم الصلاة والسلام عنصر الأحباب والأخلاء أسوة في الاعتراف بالقصور والاستغفار في الأحوال كلها[img] [/img] | |
|